تطبيع الإبل يقيّدها فقط بقيد من ليف، وتارةً يعقلها بالعقال، ويربطها ويدحرج حولها برميلاً فارغاً بقعقعته، ولم تهدأ إلاّ حين تسمع صوته، فيهدأ روعها وتمدّ شفتها لتعبث بعمامته، فيضع لها الشعير في حجره، ويمسح رأسها ورقبتها بيده، ويُخرج لها القردان الملتصقة بجلدها، ويضعها في صرّة ليلقي بها بعيداً عن محاسها، فإنّ أحسّ بأنّ قوّتها قد عادت إليها ينيخها ويركبها، ويأمرها بالتوقف والسير، فتمشي به بتثاقل، ويسير بها على طريق يسلكه الناس، ثمّ ينحرف عن الطريق، ويسيرعلى مناطق وعرة، ويشرع في تنويع الطعام لها، سواء في العلف أو التبن، ويطعمها العشب، ويحشّ لها الحشيش، ويدشّ لها الشعير بعد أن ينقّيه من الحصى، يجرشه ويبلّه بالماء، وهي تغبُّ منه بمتعة وتلذذ، ويعودّها على الاقتراب من السيارات ويسير بها في المناطق المزدحمة وعلى شوارع المدن، وبمحاذاة سكّة القطار، ويضع عليها جرار الماء والأمتعة، ويدرّبها على الحراثة، والسير على خطٍّ مستقيم، بمحاذاة الخطّ الأول، والوقوف عند رأس المارس، وينقّط عليها بزر البطيخ، والذرة في البوق، وإذا حرث بين الأشجار والكروم يضع فمها في الكمّامة المصنوعة من الأسلاك الرفيعة أو حبال الليف، كي لا تعتاد نتش الأغصان من الأشجار ثناء الحراثة، فيعوجّ الخطّ وتخرب الأشجار المثمرة، ويدرس بها على القشّ، ويدرّبها على جرّ اللوح على الجرن، كلّ ذلك وهي تسير بخطى ثابتة متّزنة، فبإمكانه الآن النوم على ظهرها، وهي تعمل، وكلّما رفست برجلها دابّة أو إنساناً ضربها، وأعاد تمريره بقربها، مع تهديدها بالعصا، وعوّدها على ألفاظ الأوامر؛ فإن أرادها أن تقف قال لها: قفي. وإن أراد تهدئتها قال: هيء. هيء. ولإناختها يقول: إخ.. إخ. إخيّ. وإذا أراد أن يسوقها قال: حيت. أمّا إذا رغب في أن تقرّب يديها إلى بعضهما ليقيّدها قال: سِكْ... سِكْ، ويقول لها أحياناً ألفاظاً عاديّة مثل: هاك، تعي، الخطّ، برّي الدرب، وهكذا. وكان في كلّ مراحل التطبيع والتدجين يخشى أن يفلت طبعها، وتعود إلى سابق عهدها، كأن تجفل أو تحرن، أو تقوم قبل أن يستوي على ظهرها الراكب، وهي إن فعلت ذلك فهي المعجال الّتي إذا وضع الرجل رجله في الغرز وثبت. لقي عمرو بن العلاء ذا الرُّمَّةِ، فقال: أنشدني: مابالُ عينك منها الماء ينسكب، فأنشده حتى انتهى إلى قوله: حتّى إذا ما استوى في غِرزِها تَثِبِّ فقال: عمُّكَ الراعي أحسنُ منك وصفاً حيثُ يقولُ: وهيَ إذا قامَ في غرزها كمثلِ السفينة أو أوقرُ ولا تعجلُ المرءَ قبل الورو كِ وهي بركبتهِ أبصرُ فقال: وصف ذلك ناقة ملك، وأنا أصف ناقة سُوقةٍ.(13). أو لا تستجيب للأوامر من وقوف وبروك وقيام، لأنه إن فلت طبعها لا يمكن عسفها وتطبيعها من جديد مباشرة، إذ يقتضي الأمر أن يُؤجل ذلك إلى العام المقبل، حتّى لو عُسفت وطُبّعت تكون اعتادت الفوضى فيفلت طبعها من جديد، لذلك توكل مهمّة تطبيع الإبل للرجل الصارم، ويثبّتُ لرسنها قرّاصتين من الحديد أسفل الحنك تضغطان على الفكّ السفليّ إذا ما جذب الرّسن بقوةٍ، وبعد أن يكمل المطبّع عمله، يريد أن يتأكد من المستوى الذي وصلت إليه فيطلب من رجل أن يختبرها، ويوصيه أن يتعامل معها بصرامة وجدّية، وقال: لا أريد أن تدلّل فيخرب طبعها، ولا ينبغي إن تركتها لبعض الوقت أن تسير على رسلها، أو تجرّ العنان، وإن ركبها رجل غريب أو قادها لا تستجيب له،وإن ساقها غلام حقرته. وأخيراً يخضعها للامتحان الصعب، فيأخذها إلى وادٍ سحيق بعيد عن الناس والرعاة، ويبرّكها ويعقلها، ويخرج بندقيّة، ويطلق من فوق رقبتها أعيرة ناريّة، وهو يضع رجله على ركبتها، فتخفض رأسها من الخوف، ثمّ يركبها ويسير بها ويطلق رصاصات من فوق رأسها وهو على ظهرها، فلا تجِفل، ولكنّ يسحّ بولها مع طول رجليها. المصادر والمراجع: كيفيّة التطبيع مشاهدات في النقب وسيناء وشرق الأردن وبادية الشام، أما المصادر الأخرى: 1-ما اختلفت ألفاظّه واتّفقت معانيه للأصمعي ّ، ت.ماجد حسن الذهبي، دار الفكر، 1986م. 2-إصلاح المنطق لابن السكيت، ت.أحمد شاكر، وعبد السلام هارون، دار المعارف 1949م. 3-الاشتقاق لابن دريد، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة المثنّى بغداد، 1979م. 4-المُخَصّص لابن سيده دار الكتب العلميّة بيروت المجلّد الثاني الجزء السّابع. 5-كتاب الشوارد للصّاغانيّ ت:مصطفى حجازيّ، القاهرة، 1983م. 6-الفرق بين الحروف الخمسة للبطليوسيّ، ت.د.علي زوين، مطبعة العاني، بغداد. 7-ديوان الفرزدق، تح: علي فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت 1987م. 8-الكنز اللغوي في اللسن العربي، د.أُقست هفنر قسم كتاب الإبل لأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، طبعة مصوّرة في بغداد عن طبعة المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين في بيروت سنة 1903م. 9-الغريب المصنّف لأبي عبيد القاسم، تح.د:محمد المختار العبيدي، المجلد الثاني، كتاب الإبل، ونعوتها دار مصر للطباعة، القاهرة 1996م. الهوامش: 1-الاشتقاق ص 52. 2-ما اختلفت ألفاظه ص 70. 3-إصلاح المنطق ص 464. 4-نفسه ص 280. 5-نفسه ص 286. 6-الشّوارد ص 128. 7-الفرق بين الحروف ص 194. 8-نفسه ص 386. 9-نفسه ص 215. 10-المخصص ص 121/ 7. 11-الفرق بين الحروف ص 208. 12-ديوان الفرزدق ص 530. 13-المخصّص ص 128/ 7. منقوووووووووووووووووووووووووول |